منذ أن تسبب تفشي جائحة فيروس كورونا المميت، في إعاقة النمو العالمي بداية عام 2020، أعلنت الاقتصادات المتقدمة الرئيسية عن إجراء بعض من أكبر التغييرات السياسية التي يمكن أن تشهدها البلاد في مثل هذا الوقت القصير.
كان الإجماع بين خبراء الاقتصاد، على أن التحفيز المالي والنقدي الهائل يعتبر استجابة مناسبة لحالات الطوارئ الاقتصادية في زمن الحرب، هو الأمر الأكثر بروزا خلال الفترة الأخيرة، كما أنه لا يوجد أحد تقريبا يجادل بشكل جدي في أن السياسة يجب أن تفعل كل ما يلزم للتغلب على صدمة تفشي الوباء.
وتعكس هذه الاتفاقية استنتاجا رئيسيا من نظرية المالية العامة، ويتمثل الاستنتاج في أن ارتفاع الدين الحكومي يعتبر وسيلة امتصاص الصدمات الصحيحة بالنسبة للقطاع الخاص في مواجهة الأزمات الاقتصادية المؤقتة التي لا يمكن التنبؤ بها.
فهو يتجنب التشوهات التي ستتبع الاختلافات الكبيرة في معدلات الضرائب الهامشية التي كانت ستُلزم- لولا ذلك- بتمويل زيادة كبيرة في الإنفاق العام على مدى فترة قصيرة.
وساعدت الموافقات التي قدمها الخبراء في مجال الاقتصاد الكلي، صانعي السياسات المالية والنقدية على تقديم حزم تحفيز ضخمة على الفور تقريبا، عكس الاستجابة الأبطأ بكثير خلال فترات الكساد السابقة، بما في ذلك الأزمة المالية العالمية في 2008، وفقا لما أوضحه جافين ديفيز، رئيس مجلس إدارة شركة “فولكريم أسيت مانجمنت”، في مقال نشرته صحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية.
وكانت الأسواق متقلبة للغاية. ولكن، رغم ذلك، قام هؤلاء الخبراء بتأييد هذه القرارات إلى حد كبير بشكل عام.
ورغم ارتفاع حجم الدين العام، إلا أنه من المتوقع أن تظل عائدات السندات الحكومية الأمريكية طويلة الأجل عند مستوى أقل من 1% حتى عام 2022 على الأقل، كما انتعشت الأسهم من أدنى مستوى لها وربما يتم إعادة النظر فيها فقط إذا تم سحب دعم السياسة للانتعاش في وقت قريب جدا.
ولكن بمجرد تحقق الانتعاش الاقتصادي، فمن المرجح أن يؤدي تراكم الدين العام إلى انقسام خبراء الاقتصاد إلى فرق مألوفة، إذ يعتقد معظم الاقتصاديين الجدد المؤيدين للنظرية الكينزية، بما في ذلك بول كروجمان ولورنس سامرز، أن مستويات الديون المرتفعة لن تشكل في حد ذاتها مشكلة للاقتصادات المتقدمة، حتى أنهم أشاروا إلى أن ارتفاع الديون بشكل أكثر سيكون أمرا مرغوبا فيه.
فهذا الأمر سيساعد على عكس الاتجاه نحو الركود المزمن في أوروبا والولايات المتحدة.
ويتمثل أحد الأسباب الرئيسية لتفاؤل الاقتصاديين الكينزيين، في أن التكلفة السنوية لخدمة الدين ستكون أدنى من معدل النمو الاسمي في الاقتصاد بكل وضوح، ويبدو أن البنوك المركزية مستعدة لإبقائها هناك.
وإذا ظل سعر الفائدة عند مستوى أدنى من معدل النمو، فستستقر نسبة الدين إلى إجمالي الناتج المحلي في النهاية، بشرط أن يظل رصيد الموازنة الحكومية غير القائم على الفائدة أو الأساسي مستقرا.
وبافتراض نجاح استراتيجية الدين العام المرتفعة، فمن المحتمل ارتفاع عائدات السندات الحقيقية بشكل تدريجي نحو مستويات أكثر طبيعية. كما أن الأسهم ستستجيب بشكل إيجابي إلى آفاق النمو المحسنة، إذ يعود التضخم إلى النسبة التي تستهدفها البنوك المركزية والتي تبلغ 2%.
وفي هذا الصدد، أشار الكاتب إلى أن الديون يمكن إدارتها في العموم دون أزمة.
وربما يكون هذا هو المسار الأكثر احتمالا بالنسبة للاقتصادات المتقدمة في السنوات القادمة، ولكنه ليس مضمونا.
وفي الوقت نفسه، يأتي جون كوكرين وكينيث روجوف ضمن الاقتصاديين المؤثرين، الذين يحذرون من أن معظم الاقتصادات المتقدمة، خصوصا الولايات المتحدة، قد تعمل قريبا على رفع نسب الدين العام في الموازنة العامة إلى مستوى لم يُشهد من قبل حتى بعد أزمة عام 2008.
وتعترف هذه المجموعة بأن أسعار الفائدة، ظلت دون معدلات النمو لفترات طويلة قبل ذلك، مما ساعد في السيطرة على الدين العام.. لكنهم يجادلون بأن رجال السياسة بدأوا الاستجابة لتكاليف خدمة الديون المنخفضة عبر إضافة العجز الأولى إلى التخفيضات الضريبية والالتزامات بالإنفاق طويل الأجل، وهو الأمر الذي قد يتسبب في ارتفاع نسب الدين إلى أجل غير مسمى، حتى مع انخفاض أسعار الفائدة عن معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي.
بالإضافة إلى ذلك، لم يساهم انخفاض تكاليف خدمة الديون في منع اندلاع الأزمات المالية السابقة دون سابق إنذار كبير، عندما اعتبرت الأسواق المالية فجأة الدين العام والعجز مرتفعا للغاية.
ويمكن أن يحدث هذا الأمر في الاقتصادات المتقدمة، خصوصا في الولايات المتحدة، بسبب ارتفاع التضخم بشكل حاد، مما يجبر البنوك المركزية على إعادة بيع ديونها الحكومية إلى السوق، في وقت تحتاج فيه لوجود معدلات فائدة أعلى للسيطرة على التضخم.
وأشار الكاتب إلى أن هذا النوع من الخطوات قد يتسبب في حدوث ركود في أسواق السندات الحكومية، والصرف الأجنبي التي ستكون كارثية على النظام المالي وأسعار الأصول، وهو ما سيشكل كارثة هائلة..، وهذا ليس بالمبالغة.
واختتم ديفيز مقاله، قائلا إن الانفجار الأخير في الدين العام ليس مشكلة الآن، ولكن في يوم من الأيام، ربما بشكل مفاجئ، يمكن أن تصبح تلك الأزمة خطيرة.
وقال الخبير الاقتصادي ستانلي فيشر، ستكون هناك حاجة إلى استراتيجية خروج متماسكة للتخفيف من هذه المخاطر.