يشهد قطاع الذكاء الاصطناعي جدلًا على نطاق واسع منذ إبرام عدد من الصفقات الضخمة التي تعد بإعادة تشكيل المشهد التكنولوجي على مستوى العالم.
لكن تحت تلك الهالة من الإثارة والأرقام الكبيرة، تكمن تساؤلات حول مدى إمكانية تحقيق الاستدامة في هذا النمو الكبير الذي يشهده القطاع في الوقت الراهن.
وألقى الإعلان عن عدد كبير من هذه الصفقات الضخمة الضوء على ضخ استثمارات هائلة غير مسبوقة في بنية قطاع الذكاء الاصطناعي.
وتضمنت تلك الصفقات اتفاق توريد شرائح الذي يغطي عدة سنوات بين شركة “أوبن إيه آي” و”إيه إم دي” بقيمة عشرات المليارات من الدولارات.
كما تتضمن استحواذ محتمل من قبل “بلاك روك” عبر “جلوبال إنفراستركتشر بارتنرز” على “ألايند داتا سنترز” بقيمة حوالي 40 مليار دولار.
وتأتي هذه الخطوات مع توقعات تجاوز الإنفاق الرأسمالي العالمي على الذكاء الاصطناعي تريليون دولار في عام 2025، مدفوعًا بشركات أجهزة الكمبيوتر الفائقة مثل ميكروسوفت، وأمازون، وميتا التي تتنافس لتأمين قوة الكمبيوتر.
ومع ذلك، يعكس هذا الجنون ازدهارًا تاريخيًا انتهت بانفجارات، مما يدعو إلى نظرة أقرب حول ما إذا كان الضجيج يطابق الواقع.
حمى الصفقات الكبرى
أثار نمو الذكاء الاصطناعي موجة من التعاملات عالية المخاطر في أوائل أكتوبر 2025.
وتتضمن هذه الاتفاقات صفقة بين مطور ذكاء اصطناعي مثل “أوبن إيه آي” يؤمن شرائحًا من عملاق أشباه الموصلات مثل “إيه إم دي”، مع خيار للحصول على حصة تصل إلى 10% في الأسهم، مما قد يفتح الباب أمام الشركتين لتحقيق نموًا بعشرات المليارات من الإيرادات.
في الوقت نفسه، تبرز المفاوضات لشراء مشغل مركز بيانات رئيسي مثل “ألايند داتا سنترز” بقيمة 40 مليار دولار من قبل “بلاك روك” نقصًا حادًا في الطاقة والتبريد الضروريين لعمليات الذكاء الاصطناعي.
وتشمل صفقات أخرى التزامات سحابية مثل تلك التي أعلنتها “أوراكل” بقيمة 2 مليار دولار في ألمانيا للبنية السحابية والذكاء الاصطناعي، ونشر أدوات ذكاء اصطناعي لآلاف البائعين كما في صفقة “بالانتير” التي ساهمت في تجاوز إيراداتها المليار دولار، مما يعزز كفاءة التجزئة.
كما شهد الربع الثالث من 2025 جولات تمويل هائلة مثل 13 مليار دولار لـ”أنثروبيك” و5.3 مليار دولار لـ”إكس إيه آي”، مما يعكس سيطرة الذكاء الاصطناعي على الاستثمارات الجريئة بإجمالي 192.7 مليار دولار حتى الآن.
وتأتي هذه الاتفاقات استنادًا إلى زخم عام 2025 الذي تحقق في القطاع، إذ تضاعفت إيرادات الذكاء الاصطناعي للشركات الرائدة مثل “بالانتير” ثلاث مرات لتصل إلى 12.7 مليار دولار في بعض القطاعات.
بخلاف الارتفاعات التكنولوجية السابقة، يستفيد الذكاء الاصطناعي من أكثر من 4 مليار مستخدم للهواتف المحمولة.
ومع ذلك، يخلق الاعتماد على تمويل البائعين – حيث يمول مصنعو الشرائح مثل “إن فيديا” المشترين الذين يشترون منتجاتهم بعد ذلك كما في استثماراتها في “أوبن إيه آي” و”أنثروبيك” – تبعيات دائرية، وهي حالة يعتمد فيها أطراف الصفقة على بعضهم البعض بشكل متبادل للتمويل، مما يضخم المخاطر.
وتزيد هذه العوامل من المخاطر، حيث غالباً ما تتجاوز الالتزامات الدفعات المقدمة، مراهنة على أرباح مستقبلية قد تتحقق وقد لا تتحقق.
تحذيرات في الأفق
من المرجح الارتفاع الصاروخي لأسهم قطاع الذكاء الاصطناعي قد يخفي فقاعة في طور التكوين، بحجم 17 ضعف عصر الدوت كوم وأربعة أضعاف أزمة الرهون العقارية الثانوية.
ومع تفوق الإنفاق الرأسمالي على الإيرادات بـ800 مليار دولار، يبلغ 95% من الشركات عن عائد استثمار صفري من استثمارات الذكاء الاصطناعي.
وتعزز نظم الدوائر المغلقة بين عمالقة التكنولوجيا مثل “ميكروسوفت” و”جوجل” الهشاشة، ما يذكر بانفجار ناسداك عام 2000، الذي يُعرف بفقاعة الدوت كوم وشهد انهيارًا حادًا في تقييمات أسهم التكنولوجيا، ومحا 78% من القيمة السوقية.
لكن هناك من يرى العكس، إذ يرجحون أن هناك ثمة “فقاعة صناعية” تنتج ابتكارات دائمة، مثل الألياف البصرية التي نجت من سقوط الدوت كوم.
وقد يستمر نقص الأجهزة لعقد من الزمن، بينما قد ترفع الرسوم الجمركية التكاليف أكثر.
ويضيف تدخل الحكومات عبر الصناديق السيادية التي تستمر في ضخ رأس المال، لكن بدون إشراف تنظيمي أوسع، تلوح في الأفق مبالغات في التمويل.
ولفت محافظو البنوك المركزية، بما في ذلك رئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول، إلى مستقبليات الذكاء الاصطناعي ودوره الواعد في تعزيز الإنتاجية لكنهم حذروا من اضطرابات اقتصادية إذا لم تحقق الاستثمارات في القطاع أهدافها المنشودة.
تأثير الذكاء الاصطناعي على الاقتصاد العالمي
يُتوقع أن يُحدث الذكاء الاصطناعي تحولاً جذريًا في الاقتصاد العالمي، إذ تتجاوز التقديرات تأثيره ليضيف ما يعادل 2.6 تريليون إلى 4.4 تريليون دولار سنويًا إلى الاقتصاد العالمي من خلال زيادة الإنتاجية وتحسين الكفاءة في العمليات الصناعية.
وأشارت تقارير صادرة عن صندوق النقد الدولي إلى أن الذكاء الاصطناعي سيؤثر على حوالي 40% من الوظائف عالميًا، حيث يتوقع أن يحل محل بعضها ويكون مُكملاً للبعض الآخر، مما يفرض ضرورة توفير شبكات أمان اجتماعي أقوى والاستثمار في إعادة تدريب العمالة لضمان اكتساب المهارات الرقمية المطلوبة.
ومع ذلك، يظهر تناقض شديد عندما نعرف أن التأثير على النمو في الدول المتقدمة أكثر من ضعفي الدول المنخفضة الدخل، بسبب تفاوت الوصول إلى الموارد الحيوية للذكاء الاصطناعي مثل الشرائح الإلكترونية، والبيانات، والبنية التحتية. وهذا التفاوت يهدد بتعميق الفجوة الرقمية والاقتصادية العالمية.
ويُتوقع أن يُحدث الذكاء الاصطناعي تحولاً جذريًا في الاقتصاد العالمي خلال عام 2025 وما بعده، إذ أظهرت التقارير ارتفاع الاستثمار الخاص في الولايات المتحدة إلى 109.1 مليار دولار في 2024، مما يعزز النمو الاقتصادي بنسبة تصل إلى 1.5% بحلول 2035 و3.7% بحلول 2075، مع رفع إنتاجية العمل بنسبة 15% في الأسواق المتقدمة.
وتلوح في الأفق فجوة بين الاقتصادات المتقدمة والنامية فيما يتعلق بالذكاء الاصطناعي، إذ يكون التأثير على النمو في الدول المتقدمة أكثر من ضعفي الدول المنخفضة الدخل، مع زيادة في الإيرادات لكل موظف في الصناعات المعرضة للذكاء الاصطناعي بنسبة تصل إلى ثلاثة أضعاف.
كما يشجع على توظيف مهارات مختلطة بين الذكاء الاصطناعي والمهارات البشرية، دون دليل حتى الآن على انهيار واسع في سوق العمل، لكنه قد يؤدي إلى اضطرابات إذا لم يتم التعامل مع الفجوات التنظيمية والتعليمية.
ماذا بعد؟
قد تبرر قوة الذكاء الاصطناعي التحويلية في مجالات تشمل التشخيص والاكتشاف الدوائي زخم الإنفاق، مما يميز هذه الحالة عن كافة الحالات التكهنية البحتة.
ويتوقع استمرار الصفقات، مثل استحواذ “بيربليكسيتي” على فريق “فيجوال إلكتريك”، لكن قيود الطاقة وانخفاض استخدام المؤسسات قد يثيران تصحيحات بنسبة 20-50% في تقييمات أسهم التكنولوجيا بحلول عام 2026.
على كلٍ، قد يكون من الأفضل للمستثمرين في أسواق المال التعامل بحذر مع أسهم قطاع الذكاء الاصطناعي.
كما ينبغي أن يجمعوا بين التفاؤل حيال مستقبل هذه الأسهم والاطلاع باستمرار على العائدات الرأسمالية والتحولات العالمية لشركات الذكاء الاصطناعي.
كمل لابد من تجاهل الجلبة التي يشهدها القطاع والتركيز، بدلًا من ذلك، على المخاطر التي تفتح الباب أمام تكرار دروس التاريخ باهظة التكلفة مثل فقاعة التكنولوجيا وفقاعة الإسكان.
أما الاختبار الحقيقي الفعال فيكمن في ما إذا كان الابتكار يتجاوز التكهنات، محولاً اندفاع اليوم إلى أساس قوي لاستثمارات الغد.