يقدم التباين بين الأثرياء والفقراء لمحة عن التعافي الاقتصادى غير المتوازن ذى السرعتين فى الصين، ففى الوقت الذى خرج فيه المواطنون الأكثر ثراء فى البلاد، حتى الآن، سالمين من الناحية المالية من تداعيات تفشى وباء كوفيد19-، إلا أن كثيرين من ذوى الدخل المنخفض يعانون.
وأثار الانتعاش المتفاوت فى الإنفاق الاستهلاكى تساؤلات من العمال ذوى الدخل المنخفض إلى الاقتصاديين والمحللين، حول الطريقة التى استجابت بها الحكومة الصينية لتفشى الوباء.
ففى الوقت الذى حاولت فيه دول عديدة تحويل الأموال النقدية مباشرة إلى المستهلكين لحماية الأعمال التجارية، ركزت بكين الكثير من جهودها على تحفيز الاستثمار والبناء.
وفى هذا الصدد، قال المحللون إن البلاد عندما تبنت تدابير يقودها المستهلك، بما فى ذلك الموافقات على السوق الحرة المعفاة من الرسوم الجمركية الجديدة، استفادت الأسر الميسورة الحال، وليس المتوسطة.
لذلك، رغم توقع صندوق النقد الدولى نمو اقتصاد الصين بنسبة 1.2% هذا العام وأكثر من 5% سنويا بين عامى 2021 و2025 أى أعلى من أى اقتصاد كبير آخر- يتساءل البعض عما إذا كانت هذه العودة للنمو ستفيد المستهلكين ذوى الدخل المنخفض فى ظل حاجة بكين لبدء الإنفاق.
أصبح الاستهلاك المحلي، الذى شكل 57.8% من نمو الناتج المحلى الإجمالى فى عام 2019، عاملا مهما بالنسبة لثانى أكبر اقتصاد فى العالم، حتى قبل الحرب التجارية مع الولايات المتحدة التى أدت إلى ارتفاع مستوى الكآبة الخاص بآفاق الصادرات.
يقول الباحث فى مركز الصين للتبادلات الاقتصادية الدولية، وانج جون، إن سياسة الحكومة الصينية فشلت فى تضييق الفجوة، التى اتسعت بعد الوباء، بين الأثرياء والفقراء، مما يثبط انتعاش الاستهلاك العام، حيث يتفوق عدد منخفضى الدخل بكثير على أصحاب الدخل المرتفع.
وذكرت صحيفة فاينانشيال تايمز البريطانية أن طبيعة الانتعاش فى الاقتصاد الصيني، الذى أنهى الإغلاق الوطنى قبل عدة أشهر من معظم الدول الأخرى، لها انعكاسات على الحكومات فى العالم بأسره أثناء محاولتها إعادة فتح اقتصادات بلادها، حيث تمتلك بكين أدوات عديدة تحت تصرفها لتحفيز الطلب وزيادة الإنتاج.
لكن حتى الصين جاهدت لإشعار العديد من المستهلكين بالثقة الكافية بشأن المستقبل حتى يتمكنوا من الإنفاق.
وبدأ الانتعاش فى الإنفاق الاستهلاكى الفاخر بمجرد أن بدأت إعادة فتح الاقتصاد فى بعض المدن خلال مارس الماضي.
فقد أبلغت أكثر من 12 علامة تجارية غربية فاخرة، تتراوح بين بيوت الأزياء إلى شركات صناعة السيارات، عن نمو إيرادات مزدوج الرقم فى الصين خلال الربع الثانى من العام، مقارنة بالعام السابق، فى حين تراجعت المبيعات فى أجزاء أخرى من العالم.
ووجدت دراسة أجراها المزود العالمى للخدمات العقارية «سافيلس»، أن الإقبال الشهر الماضى على مراكز التسوق الراقية فى ثلاث من أكبر خمس مدن صينية، عاد إلى مستويات ما قبل الوباء أو ربما تجاوزها.
فعلى سبيل المثال، شهدت مجموعة «إل.في.أم.أتش» للأزياء الفاخرة ارتفاع إيراداتها فى الصين بنسبة تزيد عن 65% فى الربع الثاني.
وانتعشت مبيعات السيارات، التى واجهت انكماشا كبيرا خلال العامين الماضيين بسبب التباطؤ الاقتصادى فى البلاد بشكل كبير، فقد نمت مبيعات السيارات الفاخرة بأكثر من الربع فى مايو ويونيو مقارنة بنفس الفترة من 2019، وسط عودة المشترين الأثرياء إلى صالة العرض.
ومع ذلك، يظهر الزخم إشارات بسيطة على التراجع فى الربع الثالث، فقد ارتفعت المبيعات السنوية للعلامة التجارية «برادا» المخصصة للأزياء الفاخرة بأكثر من 60% فى يوليو بعد ارتفاعا بأكثر من 50% فى يونيو، فقد كان الطلب قويا للغاية لدرجة أن متاجر عديدة فى مركز «أي.إف.سى» التجارى فى شنغهاى بدأت فى الحد من أعداد الزوار، ليس كإجراء احترازى ضد كوفيد19-، بل لتحسين تجربة العميل.
وانخفض نصيب الفرد من الإنفاق الاستهلاكى لسكان الحضر، بشكل أساسى من ذوى الدخل المنخفض إلى المتوسط، بنسبة 6.2% فى الربع الثانى من العام الجارى بعد انخفاض بنسبة 9.5% فى الربع الأول، وفقا للبيانات الرسمية.
ويقول كبير الاقتصاديين فى مجموعة «JD Digits» للتكنولوجيا المالية، شين جيانجوانج، إن الفقراء يتحملون العبء الأكبر من الانكماش الاقتصادي، مقدرا ارتفاع معدلات البطالة بين البالغين من ذوى الدخل المنخفض إلى المتوسط بأكثر من ضعف المتوسط الرسمى البالغ 5.7%.
ويسلط الانتعاش المتفاوت فى الإنفاق الضوء على فجوة الدخل المتزايدة بالفعل، فقد وجدت دراسة أجريت على أكثر من 5000 أسرة صينية فى يونيو، أن أصحاب الدخل المرتفع- ممن يجنون أكثر من 300 ألف رنمينبى سنويا- كانوا يجنون عائدا أكبر فى الربع الثانى على أساس سنوي، فى حين أن بقية السكان حققوا عوائد أقل، حيث عانى أولئك الذين يجنون أقل من 50 ألف رنمينبى من أكبر انخفاض فى الدخل.
ويكمن السبب فى هذا التفاوت فى تمكن معظم الصينيين ذوى الدخل المرتفع من الاحتفاظ بوظائفهم أو أعمالهم من خلال العمل من المنزل أثناء فترة تفشى الوباء، كما أن هذه الأسر استفادت أيضا من سياسة التسهيل الائتمانى التى انتهجتها بكين والتى أدت لارتفاع حاد فى أسواق الأسهم والإسكان، التى تمتلك الفئة الغنية فيها حصة كبيرة.
وفى المقابل، توقف نمو الدخل أو حتى أصبح سلبيا بين مئات الملايين من أصحاب الدخل المنخفض إلى المتوسط، فى ظل تأثير الوباء على سوق العمل.
وأظهرت البيانات الرسمية أن سكان المناطق الحضرية فى الصين- غالبيتهم العظمى من ذوى الدخل المنخفض إلى المتوسط- أبلغوا عن انخفاض بنسبة 2% فى دخل الفرد فى النصف الأول من العام.
يمكن أن يزداد مستوى تدهور الأوضاع مع تزايد خسارة الوظائف، فقد وجدت دراسة أجرتها جامعة بكين فى يونيو على أكثر من 5000 من سكان المناطق الحضرية، ممن كانوا يعملون فى بداية الأزمة فى ديسمبر، أن 11% من السكان فقدوا وظائفهم و10% ليس لديهم أعباء عمل، وكان هذا أعلى بكثير من معدل البطالة الرسمى البالغ 5.7% فى نفس الشهر.
يقوض الانتعاش الاقتصادى ذى المسارين جهود بكين لإنعاش النمو، حتى مع خروج البلاد بشكل أسرع من الانكماش الناجم عن الوباء مقارنة بالاقتصادات الكبرى الأخرى.
وسجلت البلاد انتعاشا بنسبة 3.2% فى الناتج الاقتصادى فى الربع الثاني- مدعوما بشكل كبير بزيادة الاستثمار المدعوم بالائتمان فى البنية التحتية والعقارات، وهى استجابة سياسية تزيد من أعباء الديون المرتفعة على الصين، لكن الاستهلاك المحلى يكافح من أجل تحسين أوضاع البلاد، إذ لن تستطيع فورة التسوق من جانب الأثرياء تعويض تخفيضات الإنفاق من قبل بقية السكان.
وفكرت بكين فى طريقة لعكس هذا الاتجاه، وتبنت برنامج اختبار شامل مجانى لفيروس كورونا ليس مصمم لحصر حالات الإصابة فقط، وانما أيضا لتعزيز الثقة الاقتصادية.