لعل انتشار جائحة فيروس كورونا، تضر الأسواق الناشئة بشدة، فقد وصلت ديونها مجتمعة إلى 17 تريليون دولار من الدين الحكومى و24% من إجمالى الديون العالمية.
كما خفضت وكالة فيتش للتصنيف الائتماني تصنيفها لـ 18 دولة من تلك الأسواق فى عام 2020 حتى الآن، وهو ما يزيد على أى عام سابق.
ولكن فى الوقت الذي يلحق فيه الوباء، الدمار بالاقتصاد والمالية العامة، يكون السؤال الطبيعى هو: من التالى؟
طلبت أكثر من 100 دولة، بما فى ذلك جنوب أفريقيا، مساعدة صندوق النقد الدولي، ليوافق بالفعل على تقديم 40 قرضاً من القروض الصغيرة السريعة التى عادة ما يقدمها بعد الكوارث الطبيعية، كما أن بعض الدول العملاء تكرر طلباتها.
وعندما أحدث “كوفيد-19 ” هزة عنيفة للأسواق المالية للمرة الأولى، كانت التهديدات التي تفيد باحتمالية حدوث أزمة كاملة في الأسواق الناشئة تلوح في الأفق.
ومنذ يناير الماضي، سحب المستثمرون الأجانب ما يقرب من 100 مليار دولار من سندات وأسهم الأسواق الناشئة، وفقاً لبيانات معهد التمويل الدولى، وهو أكثر من 3 أضعاف ما تم سحبه خلال الفترة المماثلة من الأزمة المالية العالمية، رغم أن هذه الأرقام لا تغطى جميع تدفقات رأس المال، كما أن الاقتصادات الناشئة نمت بشكل ملحوظ منذ عام 2008.
ومنذ ذلك الحين، بدأ الشعور بالذعر يتلاشى، فقد ساعدت خطوط المقايضة التابعة لبنك “الاحتياطى الفيدرالى” المقدمة إلى 14 بنكاً مركزياً، ومنها بنوك البرازيل والمكسيك وكوريا الجنوبية، فى تخفيف نقص الدولار العالمى، كما انخفضت تدفقات رأس المال الخارجة وعائدات السندات في الأسواق الناشئة.
ويدعو هذا الوقف المؤقت إلى إجراء تقييم أكثر تمييزاً للأوضاع المالية للأسواق الناشئة.
وفى هذا الصدد، صنفت مجلة “ذى إيكونوميست” البريطانية 66 دولة باستخدام 4 مؤشرات للقوة المالية، ليبدو البعض، مثل روسيا وبيرو والفلبين، في حالة قوة نسبية، في حين بدت 30 دولة تقريباً في حالة تعثر، ولكن هؤلاء الـ30 يمثلون حصة صغيرة نسبياً من ديون المجموعة والناتج المحلى الإجمالى.
وأوضحت المجلة، أن الوباء يضر الاقتصادات الناشئة بـ3 طرق على الأقل، من خلال فرض إغلاق على سكانها وتدمير إيرادات صادراتها وردع رأس المال الأجنبى.
وحتى لو تلاشى الوباء فى النصف الثانى من العام، فإن الناتج المحلي الإجمالي في الدول النامية، المقاس بتعادل القوة الشرائية، سيكون أقل بنسبة 6.6% في عام 2020، مما توقعه صندوق النقد الدولى فى أكتوبر الماضى.
ومن المؤكد أن الأضرار التى لحقت بالصادرات ستكون حادة، كما أن أسعار البترول المنخفضة ستقود مصدرى البترول الخليجيين للمعاناة من عجز في الحساب الجاري بأكثر من 3% من الناتج المحلي الإجمالي هذا العام، حسب تقديرات صندوق النقد الدولي، مقارنة مع فائض نسبته 5.6% في العام الماضي.
وعندما تنخفض الصادرات مقارنة بالواردات، تقوم الدول عادة بسد الفجوة من خلال الاقتراض من الخارج، ولكن انعكاس تدفقات رأس المال الداخلة يقابله ارتفاع فى تكاليف الاقتراض.
ففي مارس، ارتفعت علاوة المخاطرة التى يتعين على الأسواق الناشئة دفعها لمشترى سنداتها المقومة بالدولار إلى مستويات متعثرة- تجاوزت 10 نقاط مئوية- لدى نحو 20 حكومة، وهو رقم قياسي، كما يقول صندوق النقد الدولي.
ويعتقد “صندوق النقد”، أن الاقتصادات الناشئة ربما تحتاج إلى 2.5 تريليون دولار على الأقل من مصادر أجنبية أو احتياطياتها الخاصة للتمكن من مواجهة الأزمة، مشيراً إلى أن أحد الطرق لضمان امتلاك الدول للعملات الأجنبية تتمثل فى التوقف عن أخذها منهم.
وقالت حكومات مجموعة الـ20، إنها ستمتنع عن تحصيل مدفوعات قروضها هذا العام من الـ 77 دولة الأشد فقراً فى العالم، في حين حثت مجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى المقرضين من القطاع الخاص للتذرع بالصبر أيضاً.
وهذه الفكرة لاقت تأييد مجموعة مكونة من أكثر من 70 جهة دائنة من القطاع الخاص، مع ملاحظة مدى تعقيدها والقيود التي يواجهها المقرضون.
وربما يكون تأجيل سداد الديون أقل ضرورة أيضاً، مما ظهر حتى قبل أسبوعين، إذ بدأ المستثمرون فى الشعور بالهدوء إلى حد ما، مما قد يعكس التفاؤل المفرط بشأن مسار الوباء.
ولكن حتى التفاؤل الكاذب قد يكون مفيداً حقاً للأسواق الناشئة من خلال السماح لها بإعادة تمويل الديون بشروط ميسورة.
بالإضافة إلى ذلك، يسمح الهدوء النسبى بإلقاء نظرة أكثر تميزاً على الأسواق الناشئة، إذ يعاني البعض من عجز مالى أو خارجى واسع النطاق، فى حين يعانى آخرون من ديون مرتفعة، وفي بعض الحالات تكون الحلقة الضعيفة هي الحكومة وفي أماكن أخرى يكون القطاع الخاص.
كما أن الديون قد تكون محلية إلى حد كبير أو مستحقة للأجانب، وأحياناً تكون مقومة بالعملة الأجنبية أيضاً.
ويشمل تصنيف ذي إيكونوميست 66 اقتصاداً من خلال مؤشرات أساسية للقوة المالية، وهى الدين العام والديون الخارجية سواء كانت العامة أو الخاصة، فضلاً عن تكاليف الاقتراض، والمدفوعات الأجنبية المحتملة للدول هذا العام- عجز الحساب الجارى بجانب مدفوعات الديون الخارجية- التى تقارن مع مخزون الاحتياطى الأجنبى، ثم يتم حساب متوسط ترتيب الدولة في كل من هذه المؤشرات لتحديد مكانتها العامة.
ويبدو أن أقوى الدول، مثل كوريا الجنوبية وتايوان، اوضاعها المالية أقوى بكثير من الدول الخاضعة لتصنيف الدول الناشئة.
كما تبدو العديد من الاقتصادات الكبرى، بما في ذلك روسيا والصين، قوية، في حين تميل معظم الدول التي حصلت على نتائج سيئة في المؤشر إلى أن تكون صغيرة، وتمثل الدول الـ30 التى تأتى فى ذيل القائمة 11% فقط من الناتج المحلى الإجمالى للمجموعة وأقل من ربع كل من دينها الخارجى والدين العام.
ويكشف تصنيف “ذى إيكونوميست” أيضاً عن الاختلافات الشاسعة فى مصدر وحجم نقاط الضعف المحتملة، إذ تمتلك دول منها أنجولا والبحرين والعراق ديونا عامة يعتقد البعض أنها ستتجاوز 100% من الناتج المحلى الإجمالى هذا العام، ولكن حوالى نصف الاقتصادات الخاضعة للتصنيف تمتلك ديوناً أقل من 60% من الناتج المحلي الإجمالى، وهو الحد الأدنى المفترض أن يفى به أعضاء منطقة اليورو، ولكن لا يفعله سوى القليل.
وأظهرت الأزمة المالية الآسيوية لعام 1997 أن المالية العامة القوية ليست كافية لحماية الاقتصادات الناشئة إذا اقترضت الشركات الخاصة بكثافة في الخارج، فقد بدا الدين العام لمنغوليا قابلاً للإدارة- أقل من 70% من الناتج المحلى الإجمالى، لكن دينها الخارجى- العام والخاص- يبلغ ضعف الناتج المحلى الإجمالى تقريباً، على العكس من ذلك، فإن الضعف المالى المعروف لدى البرازيل والهند محصور في الغالب داخل حدودهما.
وفى الوقت نفسه، تُظهر عائدات السندات مدى تكلفة الاقتراض الأجنبى، إذ يجب أن يقدم 16 من الاقتصادات فى المجموعة عائدات تزيد على 10% على سندات الدولار الحالية للعثور على مشترين لتلك السندات، وتقل العوائد على السندات مقومة بالعملات الأجنبية عن 4% لدى أكثر من 20 دولة، ولكن لا يمتلك البعض، مثل بوتسوانا، سندات بالدولار على الإطلاق، مفضلين الاقتراض بعملتهم المحلية.
وعلى مدار عام 2020، سيتعين على الاقتصادات الـ 66 العثور على أكثر من 4 تريليونات دولار لخدمة ديونها الخارجية وتغطية أى عجز فى الحساب الجارى، باستثناء الصين فهى بحاجة إلى 2.9 تريليون دولار.
ومع ذلك، تحتفظ الحكومات الخاضعة للتصنيف بأكثر من 8 تريليونات دولار من احتياطيات النقد الأجنبى- أو ما يقرب من 5 تريليونات دولار مع استثناء الصين- نصفهم لديه احتياطيات كافية لتغطية جميع مدفوعات الديون الخارجية المستحقة عليهم هذا العام وسد أى عجز فى الحساب الجارى.
أما البقية، بما فى ذلك 27 من الـ 30 دولة فى ذيل القائمة، تعاني من ضعف احتياطياتها البالغة 500 مليار دولار مجتمعة تقريباً.
وبشكل كبير، تعانى تركيا من الفجوة الأكبر المقومة بالدولار، إذ استنفدت البلاد احتياطياتها سريعاً عندما تدخلت لدعم الليرة.
وتتجاهل حسابات انخفاض الاحتياطى خطر هروب رأس المال، عندما يقرر مواطنو الدولة سحب أموالهم من البلاد، ولكنها تفترض أيضاً أن الدول لن تجذب أى استثمار أجنبى مباشر وتفشل فى تجديد أى من ديونها الخارجية المستحقة هذا العام.
وفي الواقع، تمكنت 11 من الاقتصادات الناشئة من بيع ما يزيد على 44 مليار دولار من السندات بينهما فى الأسابيع الأخيرة، وفقاً لما قاله جريجورى سميث من شركة إم أند جى أنفيستمنتس لإدارة الأصول.
وحتى بنما، التى تعانى من ارتفاع ديونها الأجنبية وانخفاض احتياطياتها بشكل كبير، أصدرت سندات بعائد يقل عن 4% فى نهاية مارس، ليتم بيع أكثر من القيمة المتوقعة بـ3 مرات.