أزمات عديدة يواجهها الاقتصاد العالمي وضربات موجعة يتلقاها من مختلف الجهات، حيث تشهد الساحة الاقتصادية حاليا تخبط عديدة سواء كان فيما يتعلق بالحرب التجارية بين واشنطن وبكين، أو جراء إنفصال المملكة المتحدة عن الاتحاد الأوروبي وما سيتبعه من تداعيات سلبية، إلى أزمة الديون الإيطالية التي قد تكون سببا رئيسيا في إصابة الاقتصاد الدولي بالركود خلال الفترة المقبلة.
وتزايد المخاوف حيال هذا الأمر حيث أصبح السؤال الفارض لنفسه لدى خبراء المال والمحللون هو من أين ستنطلق الأزمة؟
أزمة كبيرة تلك التي تتخبط فيها الحكومة الإيطالية، جعلت من هذه الدولة التي كانت فيما مضى قوة اقتصادية، تترنح، بعد أن كانت تحتل المرتبة الثامنة عالميا من حيث الحجم بناتج محلي إجمالي يدور حول تريليوني دولار، كما أنها تعتبر الاقتصاد الثالث في الاتحاد الأوروبي بعد ألمانيا وفرنسا.
وتشير التقديرات إلى أن الديون الإيطالية تتجاوز قدرتها الفعلية على السداد، والقطاع المصرفي في حالة يرثى لها، والضغط شبه اليومي على المنظومة المصرفية الإيطالية في تصاعد، بطريقة بات المختصون يخشون من أن يستيقظ المجتمع الدولي يوما ما على أصداء انهيار أحد البنوك الإيطالية، لتكون تلك هي طلقة البداية لمسار طويل من الانحدار وانهيار الاقتصاد الإيطالي والأوروبي والعالمي.
جاء ذلك بعد أن قفزت الديون الإيطالية بنحو كبير، حيث كشفت بيانات رسمية ارتفاع نسبة الديون إلى الناتج المحلي في إيطاليا، لأكثر من 138%، لتصبح إيطاليا بذلك رابع دولة مدينة في العالم، بعد الولايات المتحدة واليابان والصين، والأعلى بالطبع في منطقة اليورو، هذا الدين لا يضع فقط علامات استفهام حول مستقبل إيطاليا الاقتصادي، لكن يطرح أسئلة جوهرية حول مستقبل منطقة اليورو، والأكثر خطورة الاقتصاد الدولي، وإحدى أعلى نسب الديون في العالم بأسره، فيما تبلغ قيمة فوائد الدين نحو 2.3 مليار يورو تقريباً.
وتفاقم الديون الإيطالية جعلت من إيطاليا كابوس مفزع للاتحاد الأوروبي بأسره، وهو الامر الذي دفع المفوضية الأوروبية إلى رفع توصية باتخاذ إجراءات تأديبية ضد إيطاليا بسبب ارتفاع حجم ديونها، فالمفوضية ترى أن الحكومة الإيطالية لم تتخذ إجراءات مضادة كافية في عام 2018 للحد من حجم هذا الدين، متوقعة أن تستمر على المنوال نفسه في عام 2020.
المفوضية الأوروبية في بروكسل تعتبر أن عجز الموازنة الإيطالية قد تجاوز بكثير الحدود المقبولة أوروبياً، ما يستدعي إطلاق الإجراءات المنصوص عليها في المعاهدات. موضحةً أن الحكومة الإيطالية الحالية، التي وصفتها، بـ«الشعبوية»، اتخذت إجراءات عمّقت من حدة العجز بتراجعها عن إصلاحات سابقة محفّزة للنمو تتعلق بالمعاشات التقاعدية، والإعلان عن عجز مستهدف يفوق سقف الـ3% من الناتج المحلي الإجمالي.
فيما رد رئيس الوزراء الإيطالي المستقيل في تصريحات للمفوضية الأوروبية أنه ملتزم بتجنب الإجراءات التأديبية التي أوصت المفوضية الأوروبية باتخاذها ضد إيطاليا، بسبب ارتفاع حجم الدين العام لديها.
وتزداد المخاوف حول مصير الاقتصاد العالمي في حال عدم قدرة إيطاليا على سداد الدين والإجابة عن هذا التساؤل تكمن في أنه في ظل الوضع الحالي للاقتصاد الإيطالي قد تؤدي فجوة العجز الهائلة إلى عدم قدرة إيطاليا على الاستدانة لتمويله، ومن ثم تفقد سندات الخزانة قيمتها وتصل إيطاليا إلى وضع أشبه بأزمة اليونان المالية التي وقعت في عام 2010، هناك اختلافات في هذا الأمر، فحجم الاقتصاد الإيطالي يصل إلى عشرة أضعاف الاقتصاد اليوناني، وبالتالي قد يكون من الصعب إن لم يكن من شبه المستحيل على الاتحاد الأوروبي إنقاذ إيطاليا.
وتشير لورين ماتيس الباحثة الاقتصادية إلى أن إيطاليا والاتحاد الأوروبي والبنك المركزي الأوروبي، لن يكون في مقدورها الحيلولة دون انهيار النظام الاقتصادي الإيطالي، وأن أكثر ما يمكن أن تقدمه لروما ألا تجعل معاناتها عظيمة، مع تخفيف ألم السقوط.
وفي ظل التحديات الاقتصادية الدولية الراهنة، يصعب توقع نجاح إيطاليا في ذلك، كما أن لإيطاليا تاريخا طويلا من تحقيق فائض في الميزانية، من دون أن تخفض نسبة الدين، كما أنها لا تستطيع تخفيض نسبة ديونها من خلال رفع معدلات التضخم، والسبب بسيط، حيث إنها لا تتحكم في معدلات التضخم المحلي، إنما المتحكم الرئيس فيها هو البنك المركزي الأوروبي، وبالطبع لن يسمح البنك بأن يسود التضخم في منطقة اليورو، حتى يفلح الإيطاليون في حل مشكلات ديونهم.
أما الخبراء في وكالة بلومبرج الأمريكية فيقولون أن بيانات نُشرت في الفترة الماضيية تؤكد دخول الاقتصاد الإيطالي رسميا في حالة ركود، وذلك بعدما تراجع النمو في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 0.2 في المائة في الربع الأخير من 2018 وهو ما يعنى أن البلاد في وضع «الركود الفني»، وهو الذي يحدث عندما ينكمش النمو لربعين متتاليين.
وتتعزز المخاوف أكثر بعد مضي نحو شهرين على تفكك التحالف الشعبوي الذي يشكل الحكومة. ومن المؤشرات المقلقة جدا للمفوضية الأوروبية كما المستثمرين، أن الفارق بين عوائد السندات الألمانية والإيطالية لاستحقاق 10 سنوات ارتفع في الأيام القليلة الماضية من 200 إلى 235 نقطة أساس.
وتتركز الاهتمامات الآن على ما ستؤول إليه الأزمة السياسية لا سيما احتمالية إجراء انتخابات نيابية مبكرة وتشكيل حكومة جديدة تريدها بروكسل من التكنوقراط لإنجاز مشروع ميزانية 2020 المفترض تقديمه للمفوضية في أكتوبر المقبل، خصوصاً أن النقاش بين روما وبروكسل عاد ليأخذ أبعاد «أزمة» مع اتضاح أن إيطاليا غير جاهزة للالتزام بنسبة عجز 2% من الناتج إلا أن مراقبين يقللون من خطورة ذلك لأن الباقي المطلوب للالتزام بتلك النسبة تقلص إلى 20 مليار يورو فقط.
وتكُمن روشتة العلاج الرئيسية في أن يتحتم على الحكومة المقبلة زيادة إيرادات ضريبة القيمة المضافة اعتباراً من يناير المقبل لرفع التحصيل بقيمة 23 مليار يورو.
وفي حالة عدم موافقة إيطاليا على تخفيضات في الميزانية لموازنة برامجها باهظة الثمن والديون الاستثنائية بنهاية العام الجاري ، فإن آلية الحماية المالية سترفع تلقائيا ضريبة القيمة المضافة على جميع المشتريات ، مما يدمر القدرة الشرائية للأسر الإيطالية.
ولعل أسواق السندات كانت الأكثر تأثرا بالأزمة الإيطالية حيث تراجع العائد على سندات الخزانة العشرية الإيطالية إلى مستوى قياسي لأقل من 1% وهو ما يعني أنه لدى إيطاليا مساحة أوسع للحركة المالية، ليقلل مخاطر أي مواجهة بين إيطاليا والمفوضية الأوروبية بما يمكن أن يؤدي إلى إثارة قلق الأسواق.
وكان البنك المركزي الأوروبي أكد من قبل، أن الدول التي تعاني من ارتفاع ديونها، مثل إيطاليا، تواجه خطورة التعرض لأزمة من خلال تجاهل قواعد انضباط الموازنة أو تأجيل الإصلاحات الاقتصادية. وذلك بعد تراجع الحكومة الشعبوية الإيطالية عن إصلاحات قطاع التقاعد في إطار إجراءات التقشف، كما أن نائب رئيس الوزراء ماتيو سالفيني تعهد بإجراء تخفيضات كبيرة للضرائب، حتى على حساب زيادة الديون والعجز في البلاد.
وكانت الحكومة الائتلافية الإيطالية على خلاف مع الاتحاد الأوروبي بشأن خطط ميزانيتها منذ الخريف الماضي؛ الأمر الذي دفع عوائد السندات إلى الارتفاع؛ مما أثر على الاقتصاد الحقيقي. وقال تريا، إنه يؤيد فكرة الضريبة الثابتة لتخفيف الضغط المالي على الطبقة الوسطى، لكن لا بد من تقديمه بطريقة تقدمية بما يتوافق مع أهداف المالية العامة. وأضاف أن استيعاب تدابير الرعاية الاجتماعية الجديدة أقل من المتوقع، ويمكن أن يحقق وفورات في الإنفاق تتراوح بين 3 مليارات و4 مليارات يورو في العام المقبل.
وكان بنك إيطاليا قال سابقا إن المقرضين في البلاد لا يزالون عرضة للمخاطر بما في ذلك تباطؤ النمو الاقتصادي وارتفاع عوائد السندات الحكومية. وقال إن هذه الرياح المعاكسة ستحد من قدرتهم على زيادة دخل الفوائد وقد يتسبب الركود الطويل في ارتفاع تكاليف مخاطر الائتمان مرة أخرى.
وتعول إيطاليا على الحكومة الجديدة حيث قال رئيس الوزراء الإيطالي جوزيبي كونتي إنه لابد وأن بلاده سوف تكون لها حكومة جديدة بحلول يوم الأربعاء المقبل، وذلك بفضل المفاوضات الناجحة بين حزب حركة الخمس نجوم المناهض للمؤسسة والحزب الديمقراطي المنتمي ليسار الوسط.