شهد الذهب عودة قوية ومُبهرة في عام 2023 بعد عامين مخيبين للآمال، حيث ارتفع المعدن الأصفر بنسبة 12.53%، أي بزيادة قدرها 228.58 دولارًا أمريكيًا للأونصة الواحدة منذ بداية العام، وفقًا للتداول على عقود الفروقات (CFD) التي تتبع أداء سوق العقود الرئيسية للسلعة. وكان قد وصل الذهب إلى أعلى مستوى له على الإطلاق عند 2150 دولارًا أمريكيًا للأونصة الواحدة خلال شهر ديسمبر الجاري.
لقد تضافرت مجموعة من العوامل لتخلق بيئة مواتية لانتعاش الذهب. إليكم نظرة عن كثب على هذه العوامل بدأت بأزمة القطاع المصرفي الأمريكي مروراً بالتوترات الجيوسياسية بسبب حرب إسرائيل وحماس وتوقعات خفض الفيدرالي معدلات الفائدة في 2024 وصولاً إلى تزايد شهية البنوك المركزية لشراء الذهب.
أزمة القطاع المصرفي الأمريكي
لقد بدأ العام بأزمة مصرفية في الولايات المتحدة، دفعت المستثمرين الخائفين من المخاطر إلى التحوط بالملاذات الآمنة وأبرزها الذهب. فقد أدت أسعار الفائدة المرتفعة والاقتصاد الهش -آنذاك- إلى حدوث انهيارات كبرى في بنوك Silicon Valley Bank وSignature Bank وFirst Republic Bank فيما يُسمى الآن بأزمة البنوك لعام 2023.
وعلى خلفية تلك الانهيارات، ارتفع سعر الذهب بشكل حاد ليتجاوز مؤقتًا حاجز 2,000 دولار للأونصة، حيث ارتفعت عقود الذهب الآجلة في نيويورك بأكثر من 40 دولارًا، لتصل لفترة وجيزة إلى منتصف نطاق 2010 دولار لأول مرة منذ مارس 2022.
التوترات الجيوسياسية في الشرق الأوسط
رغم تراجع الأسعار في الربعين الثاني والثالث، إلا أن اشتعال الصراع بين إسرائيل وحماس في الربع الرابع أشعل مجدداً الطلب على الذهب كمخزن للقيمة.
وعليه، ارتفعت أسعار الذهب بأكثر من 8% لتلامس أعلى مستوى لها في تسعة أسابيع عند 1985 دولارًا للأوقية منذ 7 أكتوبر، عندما تحول التوتر المستمر منذ عقد بين إسرائيل وفلسطين إلى حرب.
وغالباً ما يكون للتوترات الجيوسياسية تأثير كبير على أداء الذهب. يُعتبر المعدن الأصفر أصلًا ملاذًا آمنًا، مما يعني أن المستثمرين يميلون إلى اللجوء إليه في أوقات عدم اليقين وعدم الاستقرار والأزمات الجيوسياسية.
تنامي شهية البنوك المركزية لحيازة الذهب
أضافت مشتريات البنوك المركزية للذهب المزيد من الضغط في الاتجاه الصاعد على أسعار الذهب، حيث وصلت المشتريات إلى حوالي 800 طن في الأشهر التسعة الأولى من عام 2023، حسب بيانات مجلس الذهب العالمي.
وهذا رقم قياسي جديد على مدار تسعة أشهر، حيث دفعت المخاوف الجيوسياسية البنوك المركزية إلى زيادة تخصيص الأصول الآمنة. كما يرجع الإقبال الكبير للبنوك المركزية على الذهب أيضًا إلى رغبة الدول في تقليل اعتمادها على الدولار الأمريكي كعملة احتياطية.
علاوة على ذلك، زادت البنوك المركزية مشترياتها من الذهب إلى 337 طناً خلال الربع الثالث من العام، ويرجع ذلك أساسًا إلى زيادة المشتريات من الصين (+78 طناً) وبولندا (+57 طناً) وتركيا (+39 طناً) والهند (+9 أطنان). وكانت الصين أكبر مشترٍ للذهب هذا العام مع 11 شهراً متتالياً من الشراء. حيث قام بنك الشعب الصيني بشراء 181 طناً هذا العام، ليصل احتياطي الذهب إلى 4٪ من احتياطاته.
حتى الآن، تزيد مشتريات البنوك المركزية للذهب الصافية بنسبة 14٪ عن عام 2022. وقد ساعد هذا الطلب الشره أسعار الذهب على تحدي عوائد السندات المرتفعة والدولار القوي. ونعتقد أن هذا الاتجاه من المرجح أن يستمر في الربع الرابع وسط التوترات في الشرق الأوسط.
الفيدرالي ينتهي من دورة رفع أسعار الفائدة
أبقى الاحتياطي الفيدرالي سعر الفائدة على الأموال الفيدرالية عند 5.25٪ – 5.5٪ للمرة الثالثة على التوالي في ديسمبر 2023، ليتماشي ذلك مع التوقعات لكنه أشار إلى تخفيضات بقيمة 75 نقطة أساس في عام 2024.
فقد قال صانعو السياسة إن المؤشرات الأخيرة تدل على أن النمو الاقتصادي تباطأ فيما لا يزال نمو الوظائف معتدلاً رغم قوته، وظل معدل البطالة منخفضًا. انخفض التضخم على مدار العام الماضي لكنه لا يزال مرتفعًا. كما نشر البنك المركزي توقعات جديدة.
وعليه، توقع مسؤولون في الفيدرالي أن يكون سعر الفائدة أقل بحلول نهاية عام 2024 عما هو عليه الآن – حيث يُظهر متوسط التوقعات أنه سينخفض بمقدار ثلاثة أرباع نقطة مئوية عن النطاق الحالي.
خفضت لجنة تحديد أسعار الفائدة متوسط التوقعات لأسعار الفائدة بنهاية العام المقبل إلى منتصف النطاق بين 4.50 و 4.75، مشيرة إلى أنها تتوقع الآن 0.75 نقطة مئوية أو 75 نقطة أساس من التخفيضات من المستويات الحالية العام المقبل. بمعدل 25 نقطة أساس لكل تخفيض، فإن ذلك سيترجم إلى ثلاثة تخفيضات للفائدة في عام 2024.
وعليه، هبط الدولار بأكثر من 1% مقابل نصف نظرائه في مجموعة العشرين بعد أن ترك مجلس الاحتياطي الفيدرالي سعر الفائدة الرئيسي دون تغيير. وارتفع الين بما يصل إلى 142.88 دولارًا مقابل الدولار، في طريقه لأقوى إغلاق له منذ أوائل أغسطس.
المسار المستقبلي للذهب في 2024
لقد شهد الذهب أداءً قويًا في عام 2023، ليفوق التوقعات في ظل بيئة غير مواتية مع ارتفاع أسعار الفائدة، كما ويتفوق على الأسهم والسندات، حسبما ورد في تقرير مجلس الذهب العالمي (WGC) الذي يخطط فيه لسيناريوهات محتملة لسوق الذهب في عام 2024.
في تقرير “نظرة على الذهب 2024” الصادر في 7 ديسمبر، صرح المجلس أن الإجماع في السوق يشير إلى “هبوط سلس” في الولايات المتحدة، والذي من شأنه أن يؤثر إيجابًا على الاقتصاد العالمي. وعلى الرغم من أن السابقات التاريخية، تبرز أن بيئات الهبوط السلس لم تكن جذابة للذهب، حيث أدت إلى عوائد متوسطة ثابتة أو سلبية إلى حد ما.
“ومع ذلك، فإن كل دورة تختلف. ففي هذه المرة، يمكن أن توفر التوترات الجيوسياسية المتصاعدة في سنة انتخابية مهمة للعديد من الاقتصادات الكبرى، جنبًا مع استمرار المشتريات من البنوك المركزية، دعمًا إضافيًا للذهب”.
وأشار مجلس الذهب العالمي إلى أن الجغرافيا السياسية أضافت ما بين 3% و 6% إلى أداء الذهب في العام الماضي. أما في عام 2024، تعني عوامل مثل حرب إسرائيل في غزة والانتخابات الكبرى التي تجري عالميًا، بما في ذلك الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والهند وتايوان، أن حاجة المستثمرين إلى تحوط محافظهم الاستثمارية من المرجح أن تكون أعلى من المعدل الطبيعي.
كانت البنوك المركزية أيضًا مصدرًا مهمًا للطلب على سوق الذهب. ومن المرجح أن تصل مشتريات البنوك المركزية إلى مستوى قياسي سنوي بعد تحطيم الرقم القياسي حتى الآن في الربع الثالث.
علاوة على ذلك، يقول التقرير إن احتمالية قيام مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بتوجيه الاقتصاد الأمريكي إلى هبوط سلس مع أسعار فائدة أعلى من 5٪ ليست مؤكدة بأي حال من الأحوال، بينما لا يزال الركود العالمي مطروحًا على الطاولة.