شهدت الساحة المالية الأمريكية الأسبوع الماضي تحولًا جذريًا بفضل بيانات اقتصادية واحدة كانت بمنزلة الصدمة: إذ صدر تقرير وظائف ضعيف للغاية لشهر أغسطس. وأشار التقرير إلى إضافة 22 ألف وظيفة فقط إلى أكبر اقتصاد في العالم، وهو رقم يقل بشكل كبير عن التوقعات البالغة 75 ألفًا، بينما ارتفع معدل البطالة إلى 4.3%. وقد يرى البعض في هذه الأرقام نذيرًا لتباطؤ اقتصادي وشيك، لكن بالنسبة للمتخصصين الذين يقرؤون خطط الاحتياطي الفيدرالي، كان هذا هو الحدث الذي طال انتظاره.
ولفت الخبراء إلى أن القراءة الأحدث لبيانات التوظيف ليست علامة على ركود قادم، بل هي إشارة واضحة على أن حملة الاحتياطي الفيدرالي القوية لكبح جماح الاقتصاد بدأت أخيرًا في تحقيق أهدافها. ويرى المراقبون أن هذا التطور بمثابة الضوء الأخضر لتحول تاريخي في السياسة النقدية، وهو تحول يُتوقع أن يحدد مسار الأسواق لبقية العام الجاري 2025 بل وما بعده.
سوق العمل: تراجع أم انهيار؟
وسادت رواية عن سوق عمل نشط لا يُقهر، لكن البيانات الأخيرة تروي قصة مختلفة تمامًا. لم يكن تقرير وظائف أغسطس حالة استثنائية، بل كان تتويجًا لاتجاه من التراجع في وتيرة التوظيف بدأ يتشكل منذ أشهر. وبعيدًا عن الأرقام الرئيسية، رسمت المؤشرات الأخرى صورة أكثر اتساقًا. فللمرة الأولى منذ عام 2021، انخفض عدد الوظائف الشاغرة إلى ما دون عدد العاطلين عن العمل، مما يشير إلى أن أرباب العمل بدأوا في تقليص خططهم التوظيفية. هذا التوازن الذي تحدث عنه مسؤولو الاحتياطي الفيدرالي، بمن فيهم رئيسه جيروم باول، يثبت أن سلسلة رفع أسعار الفائدة قد نجحت في تشديد الأوضاع المالية وبدأت في كبح الطلب على العمالة. نحن لا نشهد انهيارًا، بل تراجعًا ضروريًا للغاية، وسط انتقال من سوق محموم إلى حالة أكثر استدامة واستقرارًا.
هبوط العوائد وتراجع الدولار: تصويت الأسواق بالثقة على تخفيضات الفائدة
كان رد فعل أسواق السندات والعملات فوريًا وحاسمًا، مما دل على أن المستثمرين استوعبوا تمامًا تداعيات تقرير الوظائف. فقد هوت عوائد سندات الخزانة الأمريكية عبر المنحنى بأكمله. وتراجع عائد السندات لأجل عامين، الذي يُعد حساسًا للغاية لقرارات الاحتياطي الفيدرالي، إلى أدنى مستوى له هذا العام. كما انخفض عائد السندات لأجل 10 سنوات، ما يؤكد الإجماع المتنامي على أن حقبة أسعار الفائدة “الأعلى لفترة أطول” قد قاربت على الانتهاء. هذا التحول يعد مكسبًا ضخمًا للاقتصاد، حيث تترجم العوائد المنخفضة مباشرة إلى تقليص تكاليف الاقتراض للشركات والأفراد، من الرهون العقارية إلى الديون التجارية.
في الوقت ذاته، ضعف مؤشر الدولار الأمريكي (DXY) بشكل ملحوظ مقابل سلة من العملات الرئيسية، وهو رد فعل طبيعي ومتوقع. فعندما يُنتظر من بنك مركزي أن يشرع في تخفيض أسعار الفائدة، تصبح عملته أقل جاذبية للمستثمرين الباحثين عن العائد. إن تراجع الدولار مقابل اليورو والجنيه الإسترليني هو انعكاس واضح لهذه الحقيقة الجديدة. يرى المحللون أن السوق لا يتوقع مجرد تخفيض واحد للفائدة، بل يراهن على سلسلة من التخفيضات التي ستنقل السياسة النقدية من موقف مقيد إلى آخر أكثر حيادية، وأخيرًا، إلى موقف داعم للنمو.
الأسهم: لماذا لا يخيف التباطؤ الاقتصادي المستثمرين
على الرغم من أن تقارير الوظائف الضعيفة عادة ما تثير القلق في أسواق الأسهم، لم يكن هذا هو الحال هذا الأسبوع. فقد أنهت الأسهم الأمريكية، خاصة مؤشرا ستاندرد آند بورز 500، وناسداك، الأسبوع في المنطقة الإيجابية، وظلت قريبة من أعلى مستوياتها التاريخية. هذه المرونة تُظهر أن المستثمرين ينظرون إلى ما هو أبعد من رقم الوظائف، ويركزون على الصورة الأكبر. إنهم يدركون أن سوق العمل الأكثر هدوءًا يزيل العقبة الرئيسية أمام الاحتياطي الفيدرالي للبدء في تيسير السياسة النقدية، وأن احتمال انخفاض أسعار الفائدة ووجود احتياطي فيدرالي أكثر دعمًا هو حافز قوي للأسهم.
بالطبع، لم يكن الأداء موحدًا. فقد شهدت الأسهم الأوروبية، التي يمثلها مؤشر MSCI EAFE، تراجعًا. وهذا يذكرنا بأنه في حين أن تحركات الاحتياطي الفيدرالي لها أهمية عالمية، فإن التحديات الاقتصادية الإقليمية لا تزال قائمة. في سوق السلع، كانت الديناميكيات واضحة بالمثل: وصل الذهب إلى مستوى قياسي جديد، مؤكدًا دوره كملاذ آمن وسط حالة عدم اليقين المستمرة، بينما انخفضت أسعار النفط. وحتى سوق العملات المشفرة، مع نتائج متباينة للبيتكوين والإيثيريوم، عكست المشاعر المتناقضة للمستثمرين الذين يتنقلون في هذه البيئة الجديدة.
حركة الأسعار
عكست تحركات الأسواق هذا الأسبوع بشكل مباشر التوقعات المتغيرة بشأن السياسات النقدية. فقد سجل الذهب ارتفاعًا بنسبة 1.15% ليغلق عند 3,586.545 دولار للأوقية، بينما شهدت الفضة ارتفاعًا مماثلاً بنسبة 0.78%، لتنهي الأسبوع عند 40.99055 دولار. وفي المقابل، تراجعت أسعار النفط وسط مخاوف من تباطؤ الطلب؛ حيث انخفض سعر خام غرب تكساس الوسيط (WTI) بنسبة 2.54% ليغلق عند 61.87 دولارًا للبرميل، بينما تراجع خام برنت بنسبة 1.81% إلى 65.66 دولارًا للبرميل.
أما في أسواق العملات، فقد كان ضعف الدولار الأمريكي هو السمة الأبرز. انخفض زوج الدولار الأمريكي مقابل الفرنك السويسري بشكل حاد بنسبة 0.94% ليغلق عند 0.79801، مؤكداً جاذبية الفرنك كملاذ آمن، وهو ما يتوافق مع أدائه منذ بداية العام حيث تراجع الزوج بنسبة 11.97%. هذا التراجع كان جزءًا من ضعف أوسع للدولار، حيث ارتفع اليورو مقابل الدولار إلى 1.17141، بينما انخفض الدولار مقابل الين الياباني إلى 147.394.
وفي أسواق السندات، انعكست هذه التوقعات بشكل مباشر، حيث تراجع عائد سندات الخزانة الأمريكية لأجل 10 سنوات إلى 4.09%، وهبط عائد السندات لأجل عامين إلى ما دون 3.5%، مما زاد من تفاؤل الأسواق باقتراب خفض الفائدة. وفي سوق الأصول الرقمية، أظهرت البيتكوين تحركات متقلبة دون اتجاه واضح، مع تراجع طفيف بنسبة 2.54%.
كل الأنظار تتحول إلى التضخم
يتولى مجلس الاحتياطي الفيدرالي مهمتين رئيسيتين، هما: تحقيق أقصى قدر من التوظيف واستقرار الأسعار. ومع إظهار مهمة التوظيف الآن علامات على التحقق على نحو أكثر سلاسة وهدوءًا، يتحول التركيز بالكامل إلى النصف الثاني من المعادلة؛ أي: التضخم. إن إصدار مؤشري أسعار المستهلكين (CPI) وأسعار المنتجين (PPI) لشهر أغسطس الأسبوع المقبل سيكون بمنزلة محطة البيانات الحاسمة الأخيرة قبل اجتماع اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة في سبتمبر.
وبينما قد يظل التضخم الرئيسي مرتفعًا بسبب عوامل مثل قضايا سلاسل التوريد والتعريفات، فإن المفتاح يكمن في الاتجاهات الأساسية. يرى المراقبون أنه يتوجب متابعة التضخم الأساسي عن كثب، والأهم من ذلك، تضخم الخدمات، وخاصة أسعار الإسكان والإيجارات. إذا أظهرت هذه البيانات انخفاضًا مستدامًا، فستمنح الاحتياطي الفيدرالي كافة الأدلة التي يحتاجها للبدء في تحوله الذي طال انتظاره. يعتقد الكثيرون أن الاقتصاد على وشك تحول كبير، وقد تكون بيانات الأسبوع المقبل هي المحطة النهائية التي تؤكد أن الطريق إلى بيئة اقتصادية أكثر دعمًا أصبح الآن واضحًا.