لم يكد العالم يتخلص من جائحة كورونا حتى باغتته الحرب في أوكرانيا التي بدأ بغزو روسي للبلاد في الرابع والعشرين من فبراير الماضي.
لكن هذه الكوارث، التي وقفت في فترة ما وراء هبوط العقود الآجلة للنفط وغيره من منتجات الطاقة، كانت هي نفسها التي أدت إلى ارتفاعات دفعت بعقود الخام الأسود إلى مستويات أعلى من 100 دولار للبرميل.
فكيف كانت رحلة فيروس كورونا والغزو الروسي لأوكرانيا من كونهما سببا في هبوط الأسعار العالمية لمنتجات الطاقة حتى وصلا إلى أن يكونا السبب وراء ارتفاع صاروخي في الأسعار.
توضح فيما يلي أهم العوامل التي أدت إلى ارتفاع الأسعار إلى مستويات مرتفعة للغاية في الفترة الأخيرة.
فيروس كورونا وتخفيف القيود
كان ظهور الوباء من أهم الأسباب التي أسهمت في تراجع الأسعار العالمية للنفط إلى مستويات أدنى من 20 دولار للبرميل في إبريل 2020. وكانت القيود والإجراءات الاحترازية والإغلاق من الممارسات التي قوضت الطلب العالمي على النفط على مدار الفترة منذ بداية انتشار فيروس كورونا وحتى منتصف 2021 تقريبا مع بداية العودة تدريجيا إلى الحياة الطبيعية والتخفيف من قيود الحد من انتشار فيروس كورونا.
وتراجع الطلب العالمي على النفط في 2020 إلى 91 مليون برميل يوميا مقابل الارتفاع الذي تحقق إلى 96.5 مليون برميل يوميا في آخر 2021.
لكن بحلول منتصف 2021، بدأت دول العالم في مقدمتها دول الاقتصادات الرئيسية في الدعوة إلى العودة بالتدريج إلى الحياة الطبيعية وتخفيف القيود المفروضة للحيلولة دون انتشار الوباء.
وجاء تخفيف القيود بينما المنشآت التصنيعية ومراكز إنتاج الخدمات على مستوى العالم كان أغلبها مغلقا أو لم يتمكن من استعادة القدرات الإنتاجية الكاملة. وكانت نتيجة ذلك ارتفاع معدل الطلب على السلع والخدمات مقابل تراجع كبير في المعروض منها.
ولهذه الأسباب، ظهر ما يُعرف باضطرابات سلاسل التوريد التي كانت سببا في ارتفاع معدل التضخم على مستوى أسعار المنتجين وأسعار المستهلك حول العالم، وكان للنفط والغاز وغيرها من منتجات الطاقة النصيب الأكبر من ارتفاع الأسعار.
وثبت بما لا يدع مجالا في السنوات القليلة الماضية أن الاستثمارات طويلة الأجل في منتجات الطاقة في الأسواق من أفضل استثمارات هذه الفئة، وهو ما يتضح من خلال تسجيل أسعار النفط العالمي ارتفاعا من 20 دولار للبرميل إلى أكثر من 100 دولار للبرميل في عام ونصف تقريبا، مما يشير إلى تضاعف قيمة النفط خمس مرات.
الغزو الروسي لأوكرانيا
بدأ الغزو الروسي في الرابع والعشرين من فبراير الماضي وساد العالم قلق بالغ حيال المعروض من إمدادات الطاقة على مستوى العالم.
وتصاعدت تلك المخاوف لأن روسيا هي المنتج الأكبر على الإطلاق للغاز الطبيعي على مستوى العالم بينما تحتل المركز الثالث عالميا بين أكبر منتجي النفط، مما يجعل أي انقطاع لصادرات النفط والغاز الطبيعي الروسي سببا مباشرا في التأثير سلبا على المعروض العالمي من النفط.
تزداد أهمية روسيا في قطاع الطاقة عالميا أيضا عندما نعلم أن ثالث أكبر اقتصادات العالم، الاتحاد الأوروبي، هو المستهلك الأكبر لمنتجات الطاقة الروسية.
وتذهب نصف صادرات النفط الروسية إلى أوروبا، وفقا للبيانات الصادرة قبل بدء الغرب فرض حزم عديدة من العقوبات الاقتصادية على روسيا.
سلاح الطاقة
بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، فرضت قوى الغرب عقوبات اقتصادية على موسكو واستمرت في تطبيق المزيد من العقوبات الصارمة التي طالت صادرات النفط والغاز.
وأعلنت الولايات المتحدة حظرا كاملا على وارداتها من النفط والغاز والفحم الروسي بينما قررت المملكة المتحدة أنها سوف توقف استيراد النفط من روسيا بنهاية العام الجاري.
وأعلنت أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية أن الاتحاد الأوروبي يستعد لإنهاء اعتماده على النفط الروسي ووقف مشترياته منه بنهاية العام الجاري 2022.
لكن المجر وسلوفاكيا سوف يُسمح لهما، بموجب الاتفاق الحالي، بالاستمرار في شراء النفط الخام الروسي حتى نهاية 2023، وفقا للتعاقدات الحالية.
وكانت المفوضية الأوروبية أعلنت في مارس/ آذار الماضي أنها سوف تقلل وارداتها من الغاز الطبيعي الروسي بواقع الثلثين في عام واحد.
لكن المجر اعترضت على المشاركة في مقاطعة النفط الروسي، واصفة الاستغناء عنه أنه بمثابة “قنبلة ذرية” تنفجر في اقتصادها. وألقت تلك التصريحات الضوء على أهمية منتجات الطاقة الروسية بالنسبة للمنطقة الأوروبية.
وكانت تلك الأهمية هي التي مكنت بوتين تغيير اتجاه فوهة سلاح نفط والغاز الروسي إلى أوروبا بعد أن حاولت المفوضية الأوروبية استخدامه ضد موسكو.
ولم تقتصر استفادة بوتين على مجرد تفادي أضرار العقوبات الاقتصادية اعتمادا على صادرات روسيا من النفط والغاز، إذ تمكنت موسكو من تعظيم أرباحها من منتجات الطاقة استغلالا للارتفاع الحاد للأسعار.
كما تحاول الإدارة الروسية استغلال الموقف الحالي في الارتقاء بعملتها المحلية ورفع درجة أهميتها في الأسواق منذ أن قررا الرئيس بوتين أن الدول “غير الصديقة”، في إشارة إلى دول الغرب، لابد أن تدفع مقابل الغاز بالروبل الروسي، لا بالدولار الأمريكي ولا باليورو.
ورغم انتقاد المفوضية الأوروبية لهذا القرار، وافقت شركات من دول أوروبية، من بينها ألمانيا والمجر وسلوفاكيا، على سداد مقابل ما تحصل عليه من إمدادات الغاز الطبيعي من روسيا باليورو إلى بنك غازبرومبانك الروسي الذي سيحول العملة إلى الروبل.
وقالت صحيفة فاينانشال تايمز البريطانية إن شركات غاز في النمسا وإيطاليا تخطط لفتح حساب في غازبرومبانك.
وقالت المفوضية الأوروبية إنه إذا كان ممكنا أن يُسدد ثمن الغاز الروسي باليورو ويحصل المشتري على تأكيد للمدفوعات قبل تحويل العملة إلى الروبل، فلن يكون هناك خرقا للعقوبات.
وقطعت الشركة الروسية العملاقة للغاز (غازبروم) إمدادات الغاز الطبيعي الروسي عن بولندا وبلغاريا، مؤكدة أنها لن تستأنف ضخ الغاز إلا بعد سداد تلك الدول مقابل ما تحصل عليه بالروبل الروسي.
كما قطعت الشركة الروسية آر أيه أو نورديك إمدادات الكهرباء عن فنلندا، زاعمة أن القرار جاء لعدم شداد الشركة المشغلة لشبكة الكهرباء في فنلندا.
لكن قرار الشركة الروسية العملاقة جاء بعد يوم واحد من إعلان الرئيس الفنلندي دعمه لفكرة التقدم بطلب لانضمام بلاده إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو).
استثمارات المدى الطويل في الطاقة
يشير ما سبق إلى أن روسيا تستخدم سلاح النفط والغاز ببراعة في مواجهة قوى الغرب التي لا تزال غير قادرة على الاستغناء عن إمدادات الطاقة الروسية.
تصدرت شركة أرامكو، عملاق النفط السعودي، قائمة أكثر الشركات قيمة مالية في العالم، وانتزعت الصدارة من شركة أبل الأمريكية بعد عامين تقريبا، من تراجعها.
وفقدت أسهم أبل، نحو 5 بالمائة من قيمتها، في بورصة نيويورك، خلال معاملات الأربعاء، حيث وصلت قيمة الشركة التداولية بنهاية اليوم إلى 2.37 تريليون دولار.
وبذلك تراجعت الشركة إلى المركز الثاني، كأكثر الشركات قيمة مالية، بعد أرامكو، التي تبلغ قيمتها 2.42 تريليون دولار.
وكانت أرامكو تحتل نفس المكانة، عام 2020، وقد ازدادت قيمة أسهم شركات إنتاج الطاقة، خلال الأشهر الماضية، مع تفاقم أزمة الغزو الروسي، لأوكرانيا.
وذلك بالمقارنة بشركة أبل، التي خسرت أسهمها 20 في المائة من قيمتها منذ بداية العام الجاري، بعد عمليات بيع مكثفة لأسهم شركات التكنولوجيا بشكل عام.
ويلقي ما سبق الضوء على أن الخريطة الجديدة للأسعار باتت تعطي الأفضلية لقطاع الطاقة بعد أن ظلت لحوالي عامين لصالح قطاع التكنولوجيا، مما يرجح كفة الاستثمارات طويلة الأجل للطاقة على الاستثمارات في قطاعات أخرى.
وذكرنا أعلاه أيضا أن الأفضلية أصبحت للاستثمارات طويلة الأجل في قطاع الطاقة بسبب سرعة نمو العائد على تلك الاستثمارات، إذ ارتفعت أسعار النفط، على سبيل المثال، بحوالي خمسة أضعاف في عام ونصف تقريبا.