يبدو أن التاريخ يعيد نفسه، ليس فقط في الأسواق، إنما أيضًا في مسار الاقتصاد الأمريكي. فالرئيس دونالد يعود إلى سدة الحكم في فترة ولاية ثانية بينما الأوضاع الاقتصادية لا تتمتع بقدر معقول من القوة كما كانت عليه عندما تسلم ترامب السلطة من أوباما، لكنها أفضل بكثير مما كانت عليه في ذلك الوقت. وتعامل الرئيس الجمهوري منذ توليه السلطة مع الملف الاقتصاد بقبضة حديدية قوامها القيود التجارية والتدخلات الشفهية في سياسات البنك المركزي من خلال توجيه انتقادات لاذعة لصناع السياسات علاوة على دعمه سياسية الدولار الأمريكي القوي.
وها هو الرئيس الجديد يستمر في إطلاق تعهداته بأن يعيد الولايات المتحدة “عظيمة” مرة أخرى اعتمادًا على سياساته الاقتصادية وقيوده التجارية. رغم ذلك، تبقى هناك اختلافات بين الأوضاع الاقتصادية التي سادت وقت تسلم ترامب السلطة في فترة ولايته الأولى بين الأوضاع الراهنة. فالأوضاع التي تتصدر المشهد الاقتصادي الحالي تبدو جيدة، إذ تتوقف البطالة عند مستوى 4.1%، بينما يستمر نمو الوظائف في الولايات المتحدة في تحقيق مستويات مرتفعة دون انقطاع. كما أن نمو الأجور يتجاوز إلى حدٍ كبيرٍ نمو الأسعار بينما يظهر معدل نمو الاقتصاد أرقامًا أعلى من توقعات الأسواق.
لذا على النقيض من فترة ولايته الأولى، يتسلم الرئيس دونالد ترامب تركة اقتصادية جيدة قد تساعده في تحقيق المزيد من الرخاء في البلاد بسهولة أكبر. رغم ذلك، تتبقى بعض الأمور التي قد تؤدي إلى عرقلة هذا السيناريو عن التحقق على أرض الواقع. ونرجح أن أكبر المعوقات التي قد تواجه تطور الاقتصاد الأمريكي في فترة الولاية الثانية لترامب ربما تكون عنصر المفاجأة الذي يُعد من المكونات الأساسية لمنهجية الرئيس الجديد، والتي قد تعزز انعدام اليقين في الأسواق، وهو أكبر عدو للمستثمرين في أسواق المال بصفة عامة.
وبالفعل، غلب هذا العنصر على الموقف في الساعات الأولى من تولي الرئيس الجمهوري مهام منصبه، إذ وقع وابلًا من الأوامر التنفيذية التي ترتبط بأغلب شؤون الدولة؛ مثل ملف الهجرة، وملف التعريفة الجمركية والقيود التجارية. كما أصدر ترامب أوامره للوزراء في الإدارة الأمريكية للبدء في التعامل مع التضخم من أجل خفضه.
كما حدثت تحركات على صعيد العملات المشفرة، إذ أعلنت السلطات المالية الأمريكية تشكيل لجنة لوضع إطار عمل للأصول الرقمية على رأسها مسؤولة داعمة لأسواق العملات المشفرة.
كما تعهد ترامب بفرض تعريفة جمركية إضافية على الواردات الأمريكية، وإزالة قدر كبير من الجمود الذي تنطوي عليه الإجراءات الرسمية ذات الصلة بالأعمال علاوة على تطبيق إعفاءات ضريبية كبيرة، وغيرها الكثير من الإجراءات التي تصب في صالح مؤسسات الأعمال. رغم ذلك، لا يزال انعدام اليقين هو سيد الموقف. فرغم أن الرئيس الأمريكي أكد أكثر من مرة على أنه سوف يفرض تعريفة جمركية إضافية على الواردات الأمريكية من كندا والصين والمكسيك، إلا أنه لم يذكر حجم وتاريخ تطبيق ذلك بدقة كما فعل أثناء التعامل مع ملفات أخرى.
ومع أن ترامب قد أعلن إرجاء فرض هذه التعريفة الجمركية إلى الأول من فبراير المقبل، إلا أنه لم يتمكن من توقيع أمر تنفيذي ينص على ذلك رغم وابل الأوامر التنفيذية التي وقعها الرئيس الجديد. كما ترك ترامب الباب مفتوحًا أمام العديد من التساؤلات حول حجم هذه التعريفة الجمركية، ومدى ارتفاعها، وإلى متى تظل مرتفعة، وإلى متى قد يستمر العمل بها.
ووجه ترامب، أثناء خطاب التنصيب الاثنين الماضي، فريقه إلى “البدء في إصلاح النظام التجاري من أجل حماية العمالة والأسر الأمريكية” علاوة على الإعلان عن تأسيس ما أسماه “هيئة الإيرادات الأجنبية” التي من المقرر أن تكون مسؤولة عن جمع عائدات التعريفة الجمركية الأمريكية.
ويبقى انعدام اليقين سيد المشهد أيضًا عندما نضع في الحسبان تكلفة المعيشة وما قد تتعرض له من ارتفاع كبير في الفترة المقبلة جراء فرض التعريفات الجمركية الإضافية. فمن المؤكد أن هذه الرسوم الحمائية سوف تُمرر إلى المستهلك، مما يؤدي بطبيعة الحال إلى المزيد من الارتفاع في معدلات نمو الأسعار في الولايات المتحدة، وهو ما يهدد بتبديد جميع الجهود التي قامت بها السلطات النقدية والمالية الأمريكية في السنوات القليلة الماضية من أجل إخماد نيران التضخم والعودة بالشؤون النقدية والمالية والاقتصادية إلى الأوضاع الطبيعية. على ذلك قد تكون سياسات ترامب من أهم معززات انعدام اليقين الذي يُعد من أخطر أعداء الاقتصاد والمستثمرين على مستوى العالم.